تغير المناخ والتلوث يهددان الأهوار القديمة في العراق

 

وُلِد جاسم الأسدي في قارب في أهوار جنوب العراق. وبعد مرور ستة وستين عامًا على ولادته، لا تزال حياته تتمحور حول الأهوار، وقد أصبح اليوم ناشطًا بيئيًا ومهندسًا متخصّصًا في الموارد المائية يناضل من أجل إنقاذ الأهوار من الانقراض.

وأخبر الأسدي، وهو يسير في حرارة شديدة وسط مناظر طبيعية من الأرض القاحلة المتصدعة، قائلًا: “كانت هذه المساحات في السابق من المراعي الخضراء وحقول القصب، لكن المكان جفّ اليوم تمامًا. هناك ترَون منزلًا كان يعيش فيه مربي جواميس، لكنه تخلى عنه وانتقل بالقرب من نهر الفرات. فما مِن مراعٍ للجواميس بعد الآن.”

قام عرب الأهوار، وهم من السكان الأصليين المقيمين في الأراضي الرطبة في العراق، بصيد الأسماك وزراعة المحاصيل في هذه الأراضي مدة 5,000 عام، كما قاموا بتربية جواميس الماء وبناء منازل من القصب على جزر عائمة في المكان الذي يلتقي فيه نهرا دجلة والفرات قبل التدفق إلى الخليج.

لكنّ كلًّا من تغير المناخ وتلوث المياه والتنقيب عن النفط وبناء السدود عند المنبع يهدد بقاء هذا النظام الإيكولوجي الدقيق وثقافته القديمة في بلاد ما بين النهرين، التي يعود بعضها إلى السومريين.

والأسدي رئيس مجموعة طبيعة العراق الرائدة في مجال الحفاظ على البيئة، وقد أكّد أنّ موجة الجفاف تدخل اليوم عامها الرابع وتحوّل مساحات شاسعة من الأراضي الرطبة والأراضي الزراعية المزدهرة إلى أراضٍ صحراوية. كما أنّ الملوحة آخذة في الارتفاع في القنوات والممرات المائية المتقلصة، ما يؤدي إلى قتل الأسماك وإصابة الجواميس بالمرض.

عمل الأسدي لأكثر من 30 عامًا كمهندس في وزارة الموارد المائية العراقية، وقد أوضح قائلًا: “تشهد البيئة تغيّرًا جذريًا. ومن بين أسبابه تغير المناخ وأثره على مستويات المياه في الفرات ودجلة في العراق.”

 

عندما كان الأسدي طفلاً في الأهوار، شاهد الصيادين يتجولون بين القصب فيما استحم الجاموس وسط نباتات مورقة، لكن هذه الصورة أمست نادرة اليوم.

ووفقًا لتقرير صدر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ووزارة الزراعة العراقية في تموز/ يوليو، فإن الجفاف الحالي هو الأسوأ منذ 40 عامًا. والحياة البرية الغنية في المنطقة، بما في ذلك العديد من الطيور المهاجرة عرضة للخطر، كما يضطر مربو الجواميس والمزارعون إلى الهجرة في ظروف محفوفة بالمخاطر إلى المناطق الحضرية مثل البصرة والنجف وبغداد.

تعتمد حياة حيدر محمد على قطيعه. وعلى الرغم من أنه يعيش بجوار ممر مائي بالقرب من الجبايش في الأهوار المركزية، عليه إحضار المياه العذبة من أماكن أخرى لإطعام الجواميس التي تنتج الحليب واللحوم والروث للوقود.

ومحمد في العشرينات من عمره، وقد أخبر قائلًا: “المياه هنا مالحة وملوثة. كان لدينا في السابق 70 جاموسًا، لكن لم ينجُ منها سوى 20 رأسًا. أمّا الباقي فمات أو تم بيعه.” بعيدًا عن خط القصب الأخضر الذي يحيط بمنزله، يبدو التغيير دراماتيكيًا، حيث اختفت المستنقعات وتحوّلت إلى أراضي جافة ومالحة عميقة التشقّقات.

 

“حياتنا تعتمد على المياه”

حذر الشيخ لبنان عبد الخيون من أن أسلوب حياة عمره آلاف السنين قائم على الاستيلاد وصيد الأسماك والحصاد قد يختفي ما لم يتم اتّخاذ الإجراءات اللازمة فورًا.

فقال: “تعتمد حياتنا هنا بشكل أساسي على المياه. فإذا جفّت هذه المستنقعات، ستواجهنا مشكلة معيشية خطيرة”. جلس وفي يده مسبحة من الخرز يحتسي الشاي داخل مضيف، وهو هيكل تقليدي من القصب يقوم مقام مركز اجتماعات عرب الأهوار، أو المعدان كما يعرفون باللغة العربية.

وتابع قائلًا: “لسنا تجارًا ولا موظفين، ولا مهن أخرى لدينا تزوّدنا بالدخل. الأهوار هي مهنة آبائنا وأجدادنا”، وقدّر أنّ سبل عيش ما بين ثلاثة وأربعة ملايين شخص تعتمد على النظام البيئي للأهوار.

والأهوار من مواقع التراث العالمي لليونسكو بفضل تنوعها البيولوجي وقيمتها الثقافية، لكنّ تاريخها المعاصر واجه الكثير من الاضطرابات. فقد استنزف صدام حسين المنطقة عبر بناء الخنادق لطرد المتمردين في تسعينات القرن الماضي، ما تسبّب بخفض منسوب المياه بنسبة 90 في المائة. كما هاجر عشرات الآلاف إلى الولايات المتحدة وأوروبا، لكن بعد سقوط النظام، أزيلت الخنادق وعادت المياه والمعدان.

 

التلوث والنفط

حدد برنامج الأمم المتّحدة للبيئة العراق من بين أكثر الدول عرضة للتأثّر بتغير المناخ بسبب مزيج من درجات الحرارة المرتفعة ونقص في الأمطار والجفاف وندرة المياه والعواصف الرملية والغبارية المتكررة.

وإلى جانب حالات الجفاف المتكررة، يساهم التلوث في تدهور البيئة في المنطقة، حيث يتم إلقاء ملايين الأمتار المكعبة من النفايات الصناعية في الأنهار والممرات المائية التي تغذي الأهوار، بحسب ما يؤكّده مناصرو حماية البيئة.

فالنشطاء يجزمون أنّ التلوث الناجم عن مشاريع الوقود الأحفوري في محافظة البصرة، التي تضم معظم احتياطيات العراق الهائلة من النفط والغاز، وصل إلى مستويات مقلقة وهو مصدر بارز للأمراض السرطانية والفشل الكلوي وأمراض أخرى.

أمّا فدوى طعمة من المنظمة المحلية غير الحكومية أوزون فشدّدت من جهتها على أنّ “البصرة تشهد حاليًا تلوثًا شديدًا من حيث المياه والتربة والهواء بالإضافة إلى تلوث غذائي”، مضيفةً أن الحرارة الشديدة والتصحر يغذيان الكارثة المناخية في المنطقة.

وتابعت قائلة: “كان في البصرة 30 مليون شجرة نخيل، أمّا اليوم هناك أقل من مليون نخلة. وفي السابق، كان الغطاء الأخضر يغلّف الصحراء، أمّا اليوم فما من درع يقينا شرّ الرياح والغبار.”

وخلال زيارة قام بها مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى جنوب العراق في آب/ أغسطس الماضي، أكّد أنّ البلاد تعيش حالة طوارئ مناخية وعلى العالم مواجهة هذا العصر من الغليان. وفي حرارة تبلغ 50 درجة مئوية، زار تورك منطقة كانت خصبة بأشجار النخيل في السابق لكنها أمست اليوم حقلًا جافًا وقاحلًا.

ما يجري اليوم يعطينا لمحة عن مستقبل أمسى اليوم وشيكًا في مناطق أخرى من العالم، في حال واصلنا التنصّل من مسؤوليتنا عن اتخاذ إجراءات وقائية تخفّف من آثار تغير المناخ.

مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك

وفي رسالة مفتوحة وجّهها قبل انعقاد مؤتمر الأطراف 28 في دبي بالإمارات العربية المتحدة، حث تورك المفاوضين على الابتعاد عن القرارات القصيرة النظر وترسيخ حقوق الإنسان في صميم العمل المناخي.

 

التعاون الإقليمي

أكّد الأسدي الذي شارك في العديد من مشاريع إدارة المياه لتحقيق التوازن بين البيئة والزراعة واستعادة الأهوار، أن مشكلة ندرة المياه تتجاوز حدود العراق ودعا إلى اعتماد حل إقليمي.

وألقى باللوم على تركيا وإيران المجاورتين لبنائهما السدود عند المنبع من دون إيلاء اهتمام يُذكَر إلى المعاهدات الدولية. وقال الأسدي إنه مع تفاقم أزمة المياه جرّاء تغيّر المناخ، على دول حوض دجلة والفرات التعاون لإعمال حقوق الإنسان في المياه والتنمية وتنحية المنافسات جانبًا.

وفي العراق، تدعم المفوضية السامية لحقوق الإنسان الجهود التي تبذلها مجموعات المجتمع المدني والمدافعون عن حقوق الإنسان من أجل وصول الجميع بصورة آمنة إلى المياه ومن أجل استخدام المياه بشكل مستدام ومنصف.

وأفاد الأسدي بإن النضال من أجل حقوق الإنسان والأهوار يستحق كل هذا العناء على الرغم من المخاطر التي تلوح في الأجواء، حيث يواجه النشطاء البيئيون في العراق بانتظام التهديدات والمضايقات والاحتجاز التعسفي. ففي وقت سابق من هذا العام، اختطفت وضربت الأسدي مجموعةٌ مسلحة مجهولة الهوية، ثمّ أطلقت سراحه بعد أسبوعين.

وختم قائلًا: “ليست الأهوار من مقوّمات البيئة والاقتصاد فحسب بل تشكّل أيضًا ثقافة فريدة.”

يمكنك قراءة هذا المحتوى مترجما إلى لغات أخرى: الإنجليزية الكردية